الجمع بين الصلوات في الحضر بسبب المطر ، والوحل ، والبرد ، والثلج ، ونحوها


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

يكثر سؤال الناس واختلافهم في فصل الخريف عادة عن حكم الجمع بين صلاتي المغرب والعشاء خاصة، ويدور نتيجة لذلك جدل ولغط وشد وجذب في المساجد بسبب ذلك، ولهذا أحببتُ أن أبيِّن الأسباب المبيحة للجمع في الحضر بسبب المطر والوحل وغيرهما، والشروط المتعلقة بذلك، ومذاهب أهل العلم وأقوالهم، وما يتعلق بذلك، واللهَ أسألُ أن يوفقني إلى ذلك، وأن يفقهنا في دينه، وأن يؤلف بين قلوب المسلمين ويهديهم سبل السلام.

فأقول وبالله التوفيق:  

أولاً: الأعذار المبيحة للجمع في الحضر في المساجد:

أحبٌّ الأعمال إلى الله - عز وجل - الصلاة لأول وقتها، فمن لم يتمكن من ذلك فلا يؤخرها عن الوقت الاختياري، ولا يحل لمؤمن أن يؤخر الصلاة المكتوبة إلى الوقت الضروري أو يجمع بين صلاتين لغير عذر شرعي، إذ الجمع بين الصلاتين لغير عذر من الكبائر.

لقد رخص الشارع الحكيم والرسول الرحيم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم لأمته في الجمع بين الصلوات ذات الوقت المشترك، وهي الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، للأسباب الآتية:

1- المطر:

المطر الذي يبيح الجمع هو ما يبل الثياب وتلحق المشقة بالخروج فيه، أما الطلٌّ والمطر الخفيف الذي لا يبل الثياب ولا يحدث مشقة فلا يبيح الجمع.  

(أ) الجمع بين المغرب والعشاء:

أجاز الجمع بين المغرب والعشاء بسبب المطر الكثير العامـة من أهل العلم، فمن الصحـابة عبد الله بن عمر - رضي الله عنه -، ومن التابعين عمر بن عبد العزيز، ونافع، ومروان بن الحكم، وسعيد بن المسيب، وأبان بن عثمان بن عفان، وهو قول فقهاء المدينة السبعة ومن الأئمة مالك، والأوزاعي، والشافعي، وأحمد، وإسحاق.

ومنع من ذلك الأحناف.  

أدلة المجيزين للجمع بسبب المطر بين المغرب والعشاء:

استدل المجيزون للجمع بسبب المطر بالآتي:

1.    بما رواه نافع عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: كان رسول الله صلى ينادي مناديه في الليلة المطيرة، أو الليلة الباردة ذات الريح: "صلوا في رحالكم". 

2.    وقال سلمة بن عبد الرحمن: "من السنة إذا كان يوم مطير أن يجمع بين المغرب والعشاء".

3.    وروى البيهقي بسنده عن بلال بن عقبة: "أن عمر بن عبد العزيز كان يجمع بين المغرب والعشاء الآخرة إذا كان المطر، وإن سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وأبا بكر بن عبد الرحمن، ومشيخة ذلك الزمان كانوا يصلون معهم ولا ينكرون ذلك. 

4.    وقال نافع: "إن عبد الله بن عمر كان يجمع إذا جمع الأمراء بين المغرب والعشاء". 

5.    وروى هشام بن عروة أن أباه عروة، وسعيد بن المسيب، وأبا بكر بن عبد الرحمن بن الحـارث بن هشام بن المغيرة المخزومي كانـوا يجمعون بين المغرب والعشاء في الليلة المطيرة بين الصلاتين.

6.    وقال هشام بن عروة:" رأيت أبان بن عثمان يجمع بين الصلاتين في الليلة المطيرة، المغرب والعشاء، فيصليهما معه عروة بن الزبير، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وأبو بكر بن عبد الرحمن، لا ينكرونه، ولا يعرف لهم في عصرهم مخالف، فكان إجماعاً". 

(ب) الجمع بين الظهر والعصر بسبب المطر

بعد أن أجمع العامة من أهل العلم على جواز الجمع بين صلاتي المغرب والعشاء في الليلة المطيرة اختلفوا في جواز الجمع بين الظهر والعصر بسبب المطر.

فأجاز ذلك الشافعية ومن وافقهم، ومنع منه الجمهور مالك وأحمد، بجانب الأحناف المانعين للجمع بين المغرب والعشاء.  

استدل المجيزون للجمع بين الظهر والعصر بما روي عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جمع في المدينة بين الظهر والعصر في المطر". 

وقال المانعون لذلك بأن هذا الحديث غير صحيح.

قال ابن قدامة - رحمه الله -: (فأما الجمع بين الظهر والعصر فغير جائز، قال الأثرم: قيل لأبي عبد الله: الجمع بين الظهر والعصر في المطر؟ قال: لا، ما سمعتُ وهذا اختيار أبي بكر وابن حامد، وقول مالك، وقال أبو الحسن التميمي: فيه قولان، أحدهما أنه لا بأس به، وهو قول أبي الخطاب ومذهب الشافعي، لما روى يحيى بن واضح عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جمع في المدينة بين الظهر والعصر في المطر، ولأنه معنى أباح الجمع، فأباحه بين الظهر والعصر، كالسفر ولنا أن مستند الجمع ما ذكرناه من قول أبي سلمة والإجماع، ولم يرد إلا في المغرب والعشاء، وحديثهم غير صحيح، فإنه غير مذكور في الصحاح والسنن، وقول أحمد: ما سمعتُ، يدل على أنه ليس بشيء، ولا يصح القياس على المغرب والعشاء لما فيهما من المشقة لأجل الظلمة والمضرة، ولا القياس على السفر، لأن مشقته لأجل السير وفوات الرٌّفقة، وهو غير موجود هاهنا).

 

2. الوحل الشديد في الليلة المظلمة:

من الأعذار المبيحة للجمع بين صلاتي المغرب والعشاء خاصة الوحل الشديد في الليلة الظلماء، وإن لم يكن المطر نازلاً في أرجح قولي العلماء، وهو قول مالك وأحمد في أصح الروايتين عنه، ومنع من ذلك الشافعي ومن وافقه.

قال ابن قدامة: (فأما الوحل بمجرده فقال القاضي: قال أصحابنا: هو عذر، لأن المشقة تلحق بذلك في النعل والثياب كما تلحق بالمطر، وهو قول مالك، وذكر أبو الخطاب فيه وجهاً ثانياً، أنه لا يبيح، وهو مذهب الشافعي وأبي ثور، لأن مشقته دون مشقة المطر، فإن المطر يبل النعال والثياب، والوحل لا يبلها، فلم يصح قياسه عليه، والأول أصح، لأن الوحل يلوث الثياب والنعال، ويتعرض الإنسان للزَّلق، فيتأذى نفسُه وثيابُه، وذلك أعظم من البلل، وقد ساوى المطر في العذر في ترك الجمعة والجماعة، فدل على تساويهما في المشقة المرعية في الحكم).

 

3. الريح الشديدة في الليلة المظلمة:

من الأعذار التي تبيح الجمع بين صلاتي المغرب والعشاء كذلك الريح الشديدة في الليلة المظلمة في أرجح قولي العلماء.

والدليل على ذلك حديث ابن عمر السابق: "كان رسول الله صلى ينادي مناديه في الليلة المطيرة، أو الليلة الباردة ذات الريح: "صلوا في رحالكم".

ومن أهل العلم من منع من الجمع بسبب الريح الشديدة في الليلة المظلمة.

قال ابن قدامة: (فأما الريح الشديدة في الليلة المظلمة الباردة ففيها وجهان: أحدهما يبيح الجمع، قال الآمدي: وهو أصح، وهو قول عمر بن عبد العزيز، لأن ذلك عذر في الجمعة والجماعة.. والثاني لا يبيحه، لأن المشقة فيه دون المشقة في المطر، فلا يصح قياسه عليه، ولأن مشقتها من غير جنس مشقة المطـر، ولا ضابط لذلك يجتمعـان فيه، فلم يصح إلحـاقه به).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: (يجوز الجمع للوحل الشديد، والريح الشديدة الباردة في الليلة الظلماء ونحو ذلك، وإن لم يكن المطر نازلاً في أصح قولي العلماء، وذلك أولى من أن يصلوا في بيوتهم، بل ترك الجمع مع الصلاة في البيوت مخالف للسنة، إذ السنة أن تصلى الصلوات الخمس في المساجد جماعة، وذلك أولى من الصلاة في البيوت مفرقة باتفاق الأئمة الذين يجوِّزون الجمع، كمالك والشافعي وأحمد).

 

4. الظلمة والسيل:

من الأعذار المبيحة للجمع بين صلاتي المغرب والعشاء الظلمة والسيل.

ودليل ذلك حديث عتبان بن مالك - رضي الله عنه -: "أنه كان يؤم قومه وهو أعمى، وأنه قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنما تكون الظلمة والسيل وأنا رجل ضرير البصر، فصل يا رسول الله في بيتي مكاناً أتخذه مصلى فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: "أين تحب أن أصلي؟ "، فأشار إلى مكان من البيت فصلى فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -".

 

5. الثلج والجليد:

قال الونشريسي: (فالجمع للثلج لا أذكر فيه نصاً في مذهب مالك، واختلف علماء الشافعية فيه، فمنهم من أجازه ومنهم من منعه، لأنه يزول بنفضه من الثياب، والذي يترجح والله أعلم أنه إن كان كثيراً جداً ويتعذر نفضه يجوز).

 

6. الجمع بين صلاتي الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، من غير سفر، ولا مرض، ولا خوف، ولا مطر، رفعاً للحرج

صحَّ عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جمع في المدينة وهو صحيح مقيم بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء.

خرَّج مسلم في صحيحه عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الظهر والعصر جميعاً، والمغرب والعشاء جميعاً، من غير خوف، ولا سفر"، وفي رواية: "بالمدينة".

وعلل ذلك بأنه لم يرد أن يحرج أمته، وأوَّل بعضُ أهل العلم جمعه - صلى الله عليه وسلم - بين الظهر والعصر في المدينة وبين المغرب والعشاء، أن ذلك بسبب المطر، وقال بعضهم بسبب السفر، ومما يدل على أن في هذا التأويل بعد ونظر ما خرَّجه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن شقيق قال: "خطبنا ابن عباس يوماً بعد العصر حتى غربت الشمس وبدت النجوم، فجعل الناس يقولون: الصلاة، الصلاة، قال: فجاء رجل من بني تميم لا يفتر: الصلاة، الصلاة، فقال: أتعلمني بالسنة لا أم لك؟ ثم قال: رأيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشـاء\"، قـال عبد الله بن شقيق: فحاك في صدري من ذلك شيء، فأتيتُ أبا هريرة فسألتُه فصدَّق مقالته.  

وفي رواية عنه: "قال رجل لابن عباس: الصلاة فسكت، ثم قال: الصلاة فسكت، ثم قال: لا أم لك، أتعلمنا بالصلاة، وكنا نجمع بين الصلاتين على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟! ".

 

قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: (فهذا ابن عباس لم يكن في سفر ولا مطر، وقد استدل بما رواه على ما فعله، فعلم أن الجمع الذي رواه لم يكن في مطر، ولكن كان ابن عباس في أمر مهم من أمور المسلمين يخطبهم فيما يحتاجون إلى معرفته، ورأى أنه إن قطعه ونزل فاتت مصلحته، فكان ذلك عنده من الحاجات التي يجوز فيها الجمع، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يجمع بالمدينة لغير خوف ولا مطر، بل للحاجة تعرض له، كما قال: "أراد أن لا يحرج أمته"، ومعلوم أن جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - بعرفة ومزدلفة لم يكن لخوف ولا مطر ولا لسفر أيضاً، فإنه لو كان جمعه للسفر لجمع في الطريق، ولجمع بمكة كما كان يقصر بها، ولجمع لمَّا خرج من مكة إلى منى وصلى بها العصر والمغرب والعشاء والفجر، فعلم أن جمعه المتواتر بعرفة ومزدلفة لم يكن لمطر ولا خوف، ولا لخصوص النسك، ولا لمجرد السفر، فهكذا جمعه بالمدينة الذي رواه ابن عباس، وإنما كان الجمع لرفع الحرج عن أمته، فإذا احتاجوا إلى الجمع جمعوا.  

ثم قال راداً على الإمام البيهقي - رحمه الله -، وهو من المؤوِّلين لجمعه بالمدينة بالمطر أو السفر: قال البيهقي: ليس في رواية ابن شقيق عن ابن عباس من هذين الوجهين الثابتين عنه نفي المطر، ولا نفي السفر، فهو محمول على أحدهما، أو على ما أوله عمرو بن دينار، وليس في روايتهما ما يمنع ذلك التأويل، فيقال: يا سبحان الله! ابن عباس كان يخطبهم بالبصرة، فلم يكن مسافراً، ولم يكن هناك مطر، وهو ذكر جمعاً يحتج به على مثل ما فعله، فلو كان ذلك لسفر أو مطر كان ابن عباس أجل قدراً من أن يحتج على جمعه بجمع المطر والسفر.  

وأيضاً فقد ثبت في الصحيحين عنه أن هذا الجمع كان بالمدينة، فكيف يقال: لم ينفِ السفر؟ وحبيب بن أبي ثابت من أوثق الناس، وقد روى عن سعيد أنه قال: "من غير خوف ولا مطر".  

وأما قوله ـ أي البيهقي ـ أن البخاري لم يخرجه، فيقال هذا من أضعف الحجج، فهو لم يخرِّج أحاديث أبي الزبير، وليس كل من كان من شرطه يخرجه، وأما قوله: ورواية عمرو بن دينار عن أبي الشعثاء قريب من رواية أبي الزبير، فإنه ذكر ما أخرجه في الصحيحين من حديث حماد بن زيد عن عمرو بن دينار عن جابر بن زيد عن ابن عباس: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى بالمدينة سبعاً وثمانياً: الظهر والعصر، والمغرب والعشاء"، وفي رواية البخاري عن حماد بن زيد: "فقال أيوب: لعله في ليلة مطيرة؟ فقال: عسى".  

فيقال: هذا الظن من أيوب وعمرو، فالظن ليس من مالك، وسبب ذلك أن اللفظ الذي سمعوه لا ينفي المطر، فجوزوا أن يكون هو المراد، ولو سمعوا رواية حبيب بن أبي ثابت الثقة الثبت لم يظنوا هذا الظن، ثم رواية ابن عباس هذه حكاية فعل مطلق لم يذكر فيها نفي خوف ولا مطر، فهذا يدلك على أن ابن عباس كان قصده جواز الجمع بالمدينة في الجملة، وليس مقصوده تعيين سبب واحد.  

ثم قال - رحمه الله - بعد أن فنَّد حجج المتأولين وبعد أن أورد عدداً من الآثار تدلٌّ على جواز الجميع بسبب المطر ورفع الحرج ونحوهما: فهذه الآثار تدل على أن الجمع للمطر من الأمر القديم المعمول به بالمدينة زمن الصحابة والتابعين، مع أنه لم ينقل أن أحداً من الصحابة والتابعين أنكر ذلك، فعلم أنه منقول عندهم بالتواتر جواز ذلك، لكن لا يدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يجمع إلا للمطر، بل إذا جمع لسبب هو دون المطر مع جمعه أيضاً للمطر كان قد جمع من غير خوف ولا مطر، كما أنه إذا جمع في يالسفر وجمع في المدينة كان قد جمع في المدينة من غير خوف ولا سفر، فقول ابن عباس جمع من غير كذا ولا كذا ليس نفياً منه للجمع بتلك الأسباب، بل إثبات منه، لأنه جمع بدونها وإن كان قد جمع بها أيضاً).

 

7. الجمع بين صلاتي المغرب والعشاء بسبب حظر التجول قبل دخول العشاء:

من الأسباب المبيحة للجمع بين صلاتي المغرب والعشاء حظر التجوٌّل الذي يبدأ قبل وقت العشاء، كما يفعل ذلك اليهود لعنهم الله في فلسطين المغصوبة، إذ أن جمع العشاء مع المغرب جمع تقديم خير من صلاتها أفذاذاً في البيوت في أرجح قولي العلماء، وقد أفتت اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء بالمملكة بعدم جواز ذلك، والراجح ما ذكرنا، والله أعلم.  

شروط صحة الجمع في الحضر في المساجد:

يشترط لصحة الجمع في الحضر في المساجد بجانب العذر المبيح شروط منها ما هو متفق عليه، ومنها ما هو مختلف فيه، والشروط هي:

1.    ترتيب الصلاتين المجموعتين:

فلا يصلي العصر قبل الظهر ولا العشاء قبل المغرب، وهذا الشرط متفق عليه.  

2.    نية الجمع عند إحرامه بالصلاة الأولى:

ذهب أهل العلم في ذلك مذهبين، منهم من شرط نية الجمع عند الإحرام بالأولى، ومنهم من لم يشترطها وهو الراجح لعدم وجود الدليل، وهذا مذهب الجمهور.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (لم ينقل قط أحدٌ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر أصحابه لا بنية قصر ولا نية جمع، ولا كان خلفاؤه وأصحابه يأمرون بذلك من يصلي خلفهم، مع أن المأمومين أو أكثرهم لا يعرفون ما يفعله الإمام، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما خرج في حجته صلى بهم الظهر بالمدينة أربعاً، وصلى بهم العصر بذي الحليفة ركعتين، وخلفه أمم لا يحصي عددهم إلا الله، كلهم خرج يحجون معه، وكثير منهم لا يعرف صلاة السفر، إما لحدوث عهد بالإسلام، وإما لكونه لم يسافر بعد لا سيما النساء، صلوا معه ولم يأمر بنية القصر، وكذلك جمع بهم بعرفة ولم يقل لهم إني أريد أن أصلي العصر بعد الظهر حتى صلاها.  

وقال: ولم ينقل أحد عن أحمد أنه قال: لا يقصر إلا بنية، وإنما هذا من قول الخرقي ومن اتبعه، ونصوص أحمد وأجوبته كلها مطلقة في ذلك كما قال جماهير العلماء، وهو اختيار أبي بكر، موافقة لقدماء الأصحاب كالخلال وغيره، بل والأثرم، وأبي داود، وإبراهيم الحربي وغيرهم، فإنهم لم يشترطوا النية لا في قصر ولا في جمع، وإذا كان فرضه ركعتين فإذا أتى بهما أجزأه ذلك، سواء نوى القصر أو لم ينوه، وهذا قول الجماهير كمالك وأبي حنيفة وعامة السلف، وما علمتُ أحداً من الصحابة والتابعين لهم بإحسان اشترط نية، لا في قصر ولا في جمع، ولو نوى المسافر الإتمام كانت السنة في حقه ركعتين، ولو صلى أربعاً كان ذلك مكروهاً كما لم ينوه). 

3.    الموالاة بين الصلاتين فلا يفرِّق بينهما إلا بقدر الإقامة:

ومن أهل العلم من لم يشترط ذلك.

قال في نيل المآرب في تهذيب شرح عمدة الطالب معدداً شروط صحة الجمع: (الثاني الموالاة بين الصلاتين فلا يفرق بين المجموعتين إلا بقدر إقامة وضوء خفيف، لأن معنى الجمع المقارنة والمتابعة، ولا تحصل مع تفريق بأكثر من ذلك، ولا يضر كلام يسير).  

وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي: (الصحيح أنه إذا وجد العذر جاز الجمع وأنه لا يشترط موالاة ولا نية، وقول الفقهاء: إن معنى الجمع لا يحصل إلا بالضم والاقتران غير مُسَلم، فإنهم لم يوجبوا الموالاة في جمع التأخير، ولذا فإن معنى الجمع هو كون الوقت صار وقتاً واحداً للصلاتين المجموعتين). 

4.    وجود العذر المبيح للجمع عند افتتاح الصلاة وعند السلام من الأولى منهما: 

5.    استمرار العذر في غير الجمع بسبب المطر إلى الفراغ من الثانية:

قال في نيل المآرب: (فلو أحرم بالأولى لمطر ثم انقطع ولم يعد، فإن حصل وحل لم يبطل الجمع، وإلا بطل، ولو خلفه مرض ونحوه لزوال مبيحه، وإن انقطع سفر بالأولى بطل الجمع والقصر).

وقال ابن شاس المالكي: (ومهما اجتمع المطر والطين والظلمة، أو اثنان منهما، أو انفرد المطر، جاز الجمع، ولا يجوز عند انفراد الظلام، وأما انفراد الطين فظاهر "المستخرجة" جواز الجمع من أجله، وظاهر المذهب منعه.

ولو كان المطر موجوداً في أول الصلاتين فانقطع قبل الثانية أوفي أثنائها، جاز التمادي على الجمع إذ لا تؤمن عودته). 

6.    يشترط وجود المشقة في الجملة لا لكل فرد:

قال في نيل المآرب: (ويجوز الجمع بين العشائين دون الظهرين لمطر يبل الثياب وتوجد معه مشقة، لأن السنة لم ترد بالجمع في المطر إلا في المغرب والعشاء، فإن بل المطر النعل فقط، أو البدن، أولم توجد معه مشقة فلا يجوز، ويجوز الجمع بين العشائين لوحل، وريح شديدة باردة، وإن لم تكن الليلة مظلمة، فله الجمع لما ذكر، ولو صلى ببيته، أو بمسجد طريقه تحت سباط ونحوه، لأن المعتبر وجود المشقة في الجملة وعدمها كالسفر).

وقال ابن شاس: (ويجمع المعتكف في المسجد لإقامة الصلاة عليه، أما المنفرد في بيته فلا.

ولو صلى الشيخ الضعيف أو المرأة في البيت بالمسمِّع ففي جواز الجمع لهما خلاف) ، يعني في مذهب مالك - رحمه الله -.

وقال ابن قدامة: (هل يجوز الجمع لمنفرد أومن كان طريقه إلى المسجد في ظلال يمنع وصول المطر إليه، أومن كان مقامه في المسجد؟ وجهين: أحدُهما الجواز، لأن العذر إذا وجد استوى فيه حالُ وجود المشقة وعدمها، كالسفر، ولأن الحاجة العامة إذا وجدت أثبتت الحكم في حق من ليست له حاجة كالسَّلم، وإباحة اقتناء الكلب للصيد والماشية في حق من لا يحتاج إليهما، ولأنه قد روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جمع في المطر، وليس بين حجرته والمسجد شيء.

 

والثاني: المنع، لأن الجمع لأجل المشقة، فتختص بمن تلحقه المشقة دون من لا تلحقه، كالرخصة في التخلف عن الجمعة والجماعة، يختص بمن تلحقه المشقة دون من لا تلحقه، كمن في الجامع والقريب منه).

والراجح والله أعلم أن المشقة إذا وجدت في الجملة جاز لمن لم تلحقهم مشقة الجمع لفعله - صلى الله عليه وسلم -، فمن رغب عن سنته فليس منه، ولأنهم لو لم يجمعوا لفاتهم فضل الجماعة ولصلوا فرادى، وفي ذلك ضرر كبير.  

7.    تأخير أولى المجموعتين قليلاً عن أول وقتها:

اشترط بعضُ أهل العلم للجمع بين الصلاتين إذا وجد العذر المبيح لذلك تأخير الأولى قليلاً في جمع التقديم، والراجح عدم اشتراط ذلك لأنه ربما أوقع في الحرج الذي من أجله أبيح الجمع.

قال ابن شاس المالكي - رحمه الله -: (والمنصوص اختصاصه ـ أي الجمع في المطر ـ بالمغرب والعشاء، واستقرأ أبو القاسم بن الكاتب والقاضي أبو الوليد الجمع بين الظهر والعصر أيضاً من قول مالك في الموطأ: أرى ذلك في المطر.

وإذا جمع بين المغرب والعشاء في وقت المغرب، فهل يفعل المغرب أول وقتها أو يؤخرها قليلاً؟ الرواية المشهورة أنه يؤخرها قليلاً ثم يقدم العشاء إليها، وروي أنه يصليها في أول وقتها، محافظة على الوقت المختار، وبهذه الرواية قال ابن وهب وأشهب). 

8.    يؤذن للأولى فقط، ويقام للأولى والثانية:

إذا جمع بين صلاتين فإنه يؤذن للأولى ويقام لكل منهما.

9.    لا يتنفل بينهما:

وقال ابن حبيب المالكي: (لا بأس أن يتنفل).

 

ثانياً: الأعذار المبيحة للجمع بين الصلوات ذات الوقت المشترك للأفراد:

الذين يباح لهم الجمع بين الصلوات ذات الوقت المشترك، وهي الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، من الأفراد هم:

1. المريض

الذي يلحقه بسبب تأدية كل صلاة لوقتها مشقة وضعف، وقد ذهب أهل العلم في إباحة الجمع للمريض مذهبين:

أ. يجوز له الجمع، وهو مذهب عطاء، ومالك، وأحمد.

ب. لا يجوز له الجمع، وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي.

استدل المجيزون للجمع للمريض بحديث ابن عباس السابق: "جمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء، من غير خوف ولا مطر"، وفي رواية: "من غير خوف ولا سفر".

روي عن أحمد بن حنبل أنه قال في حديث ابن عباس: هذا عندي رخصة للمريض والمرضع. 

وقال الأثرم: قيل لأبي عبد الله: المريض يجمع بين الصلاتين؟ فقال: إني لأرجو ذلك إذا ضعف وكان لا يقدر إلا على ذلك.  

2. المستحاضة:

وقد صحَّ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر سهلة بنت سهيل وحمنة بنت جحش لما كانتا مستحاضتين بتأخير الظهر وتعجيل العصر، ويجمع بينهما بغسل واحد. 

3. المرضع.

4. من به سلس بول، أو ريح، أو مذي.

5. الشيخ الكبير.

6. من به رعاف دائم.

7. من به جرح لا يرقأ دمه.

8. الخائف.

وقال شيخ الإسلام: (ويجمع المرضى كما جاءت بذلك السنة في جمع المستحاضة، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرها بالجمع في حديثين).

 

الأفراد مخيَّرون بين جمع التقديم والتأخير:

الأفراد مخيرون بين أن يجمعوا جمع تأخير أو تقديم، وعليهم أن يفعلوا الأرفق بهم، فإذا جمعوا جمع تقديم عليهم أن يؤخروه حتى يدخل وقت الأخرى، وذلك لقوله - صلى الله عليه وسلم - لحمنة بنت جحش: "ثم تؤخرين المغرب وتعجلين العشاء"، "وإن قويتِ على أن تؤخري الظهر وتعجلي العصر" الحديث.

قال ابن شاس وهو يعدد الأعذار المبيحة للجمع: (السبب الثالث المرض، فيجوز للمريض الجمع، وقال ابن نافع: لا يجمع قبل الوقت، ويصلي كل صلاة لوقتها، فمن أغمي عليه حتى ذهب وقته لم يكن عليه قضاء.  

السبب الرابع الخوف، وفي جواز الجمع به قولان لابن القاسم.

وقال: ولو صلى الشيخ الضعيف أو المرأة في البيت بالمسمِّع ففي جـواز الجمع لهما خـلاف). 

 

وقت الوتر لمن جمع بين العشائين

ذهب أهل العلم في وقت الوتر لمن جمع بين الصلاتين مذهبين:

1. يوتر بعد الجمع.

2. لا يوتر حتى يدخل وقت العشاء في بيته.

جاء في فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في الإجابة على سؤال: وإذا جمع فهل تصلى السنة أو الوتر؟: (.. وله أن يوتر بعد صلاة العشاء المجموعة مع المغرب جمع تقديم).

قال صاحب سبيل السعادة المالكي: (وليس لمن يريد الجمع أن يتنفل بين الفريضتين ولا بعدهما، ويؤذن ويقيم لكل منهما ويصليهما بلا فصل بينهما).

 

من الكبائر الجمع بين الصلاتين من غير عذر:

روى البيهقي في سننه الكبرى بسنده عن أبي قتادة العدوي أن عمر بن الخطاب كتب إلى عامل له: ثلاث من الكبائر: الجمع بين الصلاتين إلا من عذر، والفرار من الزحف، والنهب.

قال البيهقي: وقد روي فيه حديث موصول عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفي إسناده من لا يحتج به.  

ومن أمثلة الجمع لغير عذر الجمع في البيوت، والجمع لتخزين "القات" الذي أحدثه الشيعة الزيدية باليمن.

 

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply