الحسابات الجارية - حقيقتها وتكييفها


بسم الله الرحمن الرحيم 

 المقدمة:

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، نبينا محمد وعلى آله وصحبه، وبعد:

هذا بحث مختصر في موضوع مهم من موضوعات القضايا المالية المعاصرة، وبالتحديد المعاملات المصرفية المعاصرة، وعنوانه: (الحسابات الجارية: حقيقتها وتكييفها)، وقد وضعت لهذا البحث خطة تتكون من مقدمة وخمسة مباحث، وكانت المباحث كالتالي:

المبحث الأول: حقيقة الحسابات الجارية.

المبحث الثاني: أهمية الحسابات الجارية.

المبحث الثالث: تكييفها الفقهي.

المبحث الرابع: الإشكالات الواردة على التكييف المختار.

المبحث الخامس: الأحكام والآثار المترتبة على التكييف المختار.

 

 

المبحث الأول: حقيقة الحساب الجاري(1):

الحساب الجاري هو أحد العمليات المصرفية المعاصرة، وتندرج في عرف المصارف تحت مسمى الوديعة النقدية الصرفية، وسيأتي بيان أهميته إن شاء الله - تعالى -، والمراد هنا تعريفه وبيان حقيقته.

الحسابات الجارية هي حسابات ليس هدفها الاستثمار، وإنما هي حسابات لغرض حفظ هذه الأموال وصيانتها من السرقة أو الهلاك، أو لغرض تسهيل التعامل التجاري والمعاملات المصرفية الأخرى

 

والناظر في كتب الباحثين المعاصرين الذين كتبوا في هذه المسائل، سواء أكانت من الناحية الشرعية أم القانونية، أم الاقتصادية البحتة، يلحظ اختلاف المسميات التي أطلقوها على الحساب الجاري مع اتحاد المسمى، ومن تلك التسميات:

(1) الحساب الجاري.

(2) الحساب تحت الطلب.

(3) الوديعة الجارية.

(4) الوديعة المتحركة.

(5) الودائع تحت الطلب.

(6) ودائع الحساب الجاري.

(7) الودائع الواجبة للدفع عند الطلب.

(8) ودائع بدون تفويض بالاستثمار، وهذه تسمية بنك دبي الإسلامي (تأسس عام 1395هـ).

ومن المسميات السابقة يظهر أن بعضها استخدم عبارة الحساب، وبعضها الآخر استخدم عبارة الوديعة، مع تعدد الوصف على كلٍ,، فبعضها يصفها بالجارية أو تحت الطلب أو المتحركة.

والاختلاف في هذه الإطلاقات هو من باب التنوع لا التضاد، إلا أن بعضها نظر إلى ذات المبلغ الذي تم التعاقد عليه بين المصرف والعميل فأطلق لفظ الوديعة، والقسم الآخر نظر إلى المعاملة والقائمة التي تقيد بها المعاملات المتبادلة بين الطرفين فاختار لفظ الحساب.

والحقيقة أن الوديعة المصرفية أو المبالغ أو النقود التي يعهد بها الشخص إلى المصرف هي التي تنشئ الحساب الجاري، وليست هي الحساب الجاري ذاته.

 

وقد يقال: إن من التجوّز تعريف الحساب الجاري بأنه النقود أو المبالغ، كمن أطلق لفظ السفتجة على النقود المقرضة، وهي في الأصل ورقة يكتب فيها الدين.

والذي يظهر أن البحث منصب على حكم المال أو النقود التي يعهد بها صاحبها إلى المصرف، ويتعاقد عليها، وليس البحث في الحساب أو القائمة التي تقيّد فيها المعاملات بين الطرفين.

ولأن عنوان البحث المطروح هو: الحسابات الجارية، وحتى أتجنب الحكم المبكر على المسألةº فإني سوف أستعمل هذا الإطلاق في هذا البحث فيما يأتي من المباحث، والله الموفق.

 

تعريف الحساب الجاري:

عرف الحساب الجاري: بأنه القائمة التي تقيَّد بها المعاملات المتبادلة بين العميل والبنك(2).

وعرفت ودائع الحساب الجاري: بأنها \"المبالغ التي يودعها أصحابها في البنوك بشرط أن يردها عليهم البنك كلما أرادوا\"(3).

أو \"هي النقود التي يعهد بها الأفراد أو الهيئات إلى البنك على أن يتعهد الأخير بردها أو برد مبلغ مساوٍ, لها لدى الطلب أو بالشروط المتفق عليها\"(4).

أو \"هي المبالغ التي يودعها أصحابها في البنوك بقصد أن تكون حاضرة التداول، والسحب عليها لحظة الحاجة بحيث ترد بمجرد الطلب، ودون توقف على أي إخطار سابق من أي نوع\"(5).

والتعاريف السابقة في مجملها متقاربة، وبعضها اهتم بتعريف المعاملة أو المعاقدة التي تكون بين الطرفين (المصرف والعميل)، وبعضها الآخر عرف انطلاقاً من المال الذي يتم عليه العقد بين الطرفين.

ويمكن القول كما سبق بأن الوديعة المصرفية أو المال الموضوع لدى المصرف هو الذي ينشئ الحساب الجاريº فالحساب الجاري عبارة عن قائمة تقيد بها المعاملات المصرفية المتبادلة بين العميل والمصرفº ويقوم صاحب المال بفتح هذا الحساب في المصرف لوضع ماله فيه، بغرض حفظها وصونها ثم طلبها عند الحاجة إليها، أو لأغراض التعامل اليومي والتجاري، دون الاضطرار إلى حمل النقود(6).

وقد يسلم المصرف للعميل دفتر شيكات، يسمح له بموجبه وبحسب إجراءات معروفة بالسحب متى شاء من حسابه، بحيث لا تزيد المبالغ عن مقدار المال الذي تم تسليمه للمصرف عالياً، وقد يدفع صاحب المال للمصرف مصاريف يسيرة مقابل الاحتفاظ بالحساب الجاري على هذا النحو.

وبهذا يتبين أن الحسابات الجارية أو تحت الطلب هي حسابات ليس هدفها الاستثمار وإنما هي حسابات لغرض حفظ هذه الأموال وصيانتها من السرقة أو الهلاك، أو لغرض تسهيل التعامل التجاري والمعاملات المصرفية الأخرى التي تقدمها هذه المصارف لعملائهاº لذا فإن هذه الحسابات ليس لها أي علاقة بالمضاربة أو المشاركة، ولا تستحق أي عائد أو ربح في المصارف الإسلامية، بل إنه قد يتقاضى المصرف عليها أجراً أو عمالة في مقابل ما يمنحه لأصحابها من امتيازات(7).

وإنما سمي الحساب الجاري بهذا الاسمº لأن طبيعته تجعله في حركة مستمرة من زيادة بالإيداع أو نقصان بسبب ما يطرأ عليه من قيود بالحسب والإيداع فتغير من حاله بحيث لا يبقى على صفة واحدة(8).

وتختلف طرق المصارف في التعامل مع الحسابات الجارية، ويمكن حصرها في أربعة طرق(9):

الأول: ألا يتقاضى المصرف أية أجور مقابل خدمة فتح الحساب وما يتعبه من خدماتº كإصدار الشيكات، وبطاقة السحب الآلي، وغيرها.

الثاني: أن يتقاضى المصرف أجوراً مقابل خدمة فتح الحساب الجاري، وما يتبعه من خدمات.

الثالث: أن يتقاضى المصرف أجوراً مقابل ما سبق إذا نقص رصيد العميل في الحساب عن مبلغ محدد.

الرابع: أن يمنح المصرف فوائد للعميل مقابل وجود المبلغ في الحساب، وبعضها يشترط مبلغاً معيناً لأجل منح الفوائد، وهذا هو المعمول به في البنوك الربوية.

 

المبحث الثاني: أهمية الحسابات الجارية:

تتضح أهمية الحسابات الجارية في المنافع التي يحصل عليها طرفا العقد، وهما المصرف والعميل من فتح هذه الحسابات والتعامل بها، وفيما يلي ذكر لأهم المنافع والفوائد التي يحصل عليها كل منهما:

 

أولاً: المنافع التي تعود على المصرف(10).

1- استثمار الأموال الموجودة في الحسابات الجارية دون أن يشترك عملاؤه أصحاب هذه الأموال في الأرباح التي تدرها هذه الاستثمارات.

ويتبين هذا إذا علمنا أن أموال الحسابات الجارية تعد أهم موارد المصرف، وتمثل ما قد يزيد في غالب الأحوال على 90% من مجمل الموارد، ونادراً ما تقل عن 20%(11)، وبهذا يستفيد منها المصرف في توفير السيولة والوفاء باحتياجاته واحتياجات عملائه(12).

2- فتح حساب جارٍ, لأحد العملاء يؤدي غالباً إلى أن هذا العميل يحتاج إلى خدمات مصرفية أخرى يستفيد منها المصرف، وطبعي أن يلجأ العميل إلى المصرف الذي به حسابه الجاري.

3- فتح الحسابات الجارية يزيد من قدرة المصرف على توسيع الائتمان أو ما يسمى (بخلق الودائع) واستثمارها، حيث يزيد الرصيد النقدي لهذا المصرف، وبالتالي يزيد ربحه من جراء استثمار هذه المبالغ.

4- الأجور التي تتقاضاها بعض المصارف مقابل الخدمات التي تقدمها للعملاءº كفتح الحساب، وإصدار الشيكات، وبطاقات السحب الآلي وغيرها.

5- يستفيد المصرف من الحسابات الجارية التي تفتحها لديه المصارف الأخرى التي تعامل معها وهي تمثل قرابة 10% من مجموع الخصوم في عمليات المقاصّة في الشيكات المحررة من قبل عملاء المصارف الأخرى، وفي عملية الحوالات التي يقومون بها من المصارف الأخرى، ولا سيما التحويلات من بلد إلى آخر، وغير ذلك من الأعمال المصرفية التي تستدعي وجود رصيد كاف لدى المصرف.

 

ثانياً: المنافع التي تعود على العميل (صاحب الحساب الجاري)(13).

1- حفظ أمواله من المخاطر المختلفةº كالسرقة أو الضياع، وهذا يتبين أكثر كلما كانت الأموال كثيرةº بحيث يشق حفظها في المنزل أو في المحل التجاري، ولذا يلاحظ في الشركات التجارية الكبرى والمصانع الكبيرة التي تكثر فيها عمليات البيع والتحصيل أن موظف الخزينة لا يستبق لديه أية مبالغ نقدية في الخزينة، بل عليه أن يودعها في المصرف يومياً.

2- إضافة إلى ميزة حفظ المال فإنه يكون مضموناً على المصرف، ولصاحبه حرية التصرف فيه متى شاء.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply