لنتعامل بثقافة الرفق


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

 

الرفق: لطف ولين، تعشقه النفوس، وتهواه القلوب.

والرفق: خلق رفيع، يتحلى به صاحب الهمة العلية.

والرفق: الوسيلة السهلة في التواصل والوصول. فهو لغة التفاهم، ومفتاح القلوب، ودعامة العلاقات الصحيحة. به تحقق غايتك وتصل إلى ما تريد، ومن خلاله تقوى علاقتك مع الآخرين. هو خلق نبيل، يحبه الله -تعالى-، ففي الحديث: (إن الله رفيق، يحب الرفق في الأمر كله) رواه البخاري ومسلم. وفي رواية: (والله يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف).

والرفق جماع الخير كله، جاء في الحديث: (من أُعطي حظه من الرفق فقد أعطي حظه من الخير، ومن حُرم حظه من الرفق فقد حُرم حظه من الخير) رواه الترمذي.

وهو الطريق الموصلة إلى جنات النعيم، قال -صلى الله عليه وسلم-: (حرم على النار كل هين لين سهل قريب من الناس) رواه أحمد.

من أجل هذا، ينبغي التحلي بهذا الخلق الرفيع، في كل الشئون والأحوال، ومع كل الناس: كبيرهم وصغيرهم، ذكرهم وأنثاهم، قريبهم وبعيدهم، مؤمنهم وكافرهم، حتى أسير الحرب الذي يقع في أيدي المسلمين، ينبغي التعامل معه برفق.

وها هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- القدوة الحسنة، والمثل الأعلى، يضرب لنا أروع الأمثلة في الرفق بالأسرى من خلال هذه القصة.

تروي لنا كتب السنة والتاريخ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعث سريةً قبل نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة، يقال له: ثُمامة بن أُثال، فربطوه بسارية من سواري المسجد. فخرج إليه النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: ماذا عندك يا ثُمامة؟

فقال: عندي خير، يا محمد إن تقتلني تقتل ذا دم، وإن تُنعم تُنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل منه ما شئت. فتُرك حتى كان الغد.

ثم قال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: ما عندك يا ثُمامة؟

فقال: ما قلتُ لك، إن تُنعم تُنعم على شاكر. فتركه حتى كان بعد الغد.

فقال: ما عندك يا ثُمامة؟

فقال: عندي ما قلتُ لك.

فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: أطلقوا ثُمامة.

فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل، ثم دخل المسجد، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله. يا محمد، والله ما كان على الأرض وجه أبغض إلي من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إلي. والله، ما كان من دين أبغض إلي من دينك، فأصبح دينك أحب الدين إلي. والله، ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك، فأصبح بلدك أحب البلاد إلي.

تلك هي قصة الأسير ثُمامة بن أُثال، الذي أدهشه ما لاقى من رفق وحسن معاملة، فما كان منه ـ وهو من هو في بغضه وعدائه للإسلام وأهله ـ إلا أن أعلن إسلامه، بشهادة امتلأت بها مشاعره، فانطلقت من أعماقه، لتدوي بها جنبات المدينة.

وثُمامة هذا من بني حنيفة، يكنى أبا أمامة، وكان سيد أهل اليمامة، وقد لاقى أحسن معاملة لما وقع أسيراً في يد المسلمين فقد أنزلوه في أقدس بقعة وهي المسجد ليكون قريباً من النور والهدى، وأكرموه غاية الإكرام، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه: اجمعوا ما عندكم من طعام فابعثوا به إلى ثُمامة، فجمعوا له. وأمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- بناقة له أن يُغدى بها ويراح على باب المسجد ليشرب من لبنها ثُمامة. ويخرج النبي -صلى الله عليه وسلم- لمقابلته ثلاثة أيام، يكرر عليه فيها سؤالاً واحداً محدداً: ماذا عندك يا ثمُامة؟ والمعنى: ما الذي استقر في ظنك أني فاعل بك؟ فيجيب ثُمامة: إني أظن خيرًا فأنت يا محمد لست ممن يظلم، فإن تقتلني فبحقه فقد أصبتُ منكم دماً، ولا عتب عليك في قتلي، وإن تمنن علي وتطلق سراحي، فقد عفوت عمن يحفظ جميلك، ويشكر لك صنيعك، وإن كنت تريد فدية، فلك من المال ما تريد. هذا جواب ثُمامة في اليوم الأول، وكأنه رأى علامات الغضب على وجه النبي -صلى الله عليه وسلم- في اللقاء الأول، فقدم أصعب الأمرين على نفسه، والأشفى لصدر خصومه، وهو القتل.

لكنه لما رأى أن القتل لم ينفذ فيه، ظهرت ملامح الأمل على جوابه في اليوم الثاني حينما اقتصر على ذكر الإنعام فقط، ولم يذكر القتل.

واختصر جوابه في اليوم الثالث كذلك تفويضاً منه إلى جميل خلقه -صلى الله عليه وسلم-، وعظيم عفوه. وبعد ثلاثة أيام يصدر الرسول -صلى الله عليه وسلم- أمره بإطلاق سراح ثمامة!

وفي هذا دليل صريح على أن حسن معاملة الأسرى، في نزُلهم، وطعامهم وشرابهم، والترفق بهم، من الأخلاق السامية التي دعا إليها الإسلام. وماذا بعد؟ وماذا أحدث الرفق وحسن المعاملة بثمامة؟

لقد أحدث انقلاباً كلياً في عقل ثمامة وقلبه، تجاه الإسلام، ونبي الإسلام، وبلد الإسلام، فباح بكلمات لم يضطره إليها أحد، ولم يتلفظ فيها تحت وطأة الأسر والقهر والخوف من القتل.

لنعلم أن الإحسان إلى الآخرين، وإن لم يكونوا مسلمين، والعفو عند المقدرة، يزيل البغض من القلوب، ويثبت فيها المحبة ويأسرها، ويرغب الناس في هذا الدين.

ثم إن ملاطفة من يرجى إسلامه أو يتحقق من خلاله مصلحة للإسلام و المسلمين مطلوبة شرعاً، بدليل ما فعله رسول الله مع ثُمامة. ومن جانب آخر: إن العربي الأصيل وإن لم يكن مسلماً يتحلى بخصال كريمة، وصفات نبيلة، فهو لا يعرف النفاق والتزلف، ولا يتعامل بمقولة: إن الغاية تبرر الوسيلة. فهذا ثُمامة يعاني من الأسر، ويرغب في الحرية، ويطمع في العفو، وكان بإمكانه أن يسلم ولو شكلاً وتنتهي معاناته، لكن تلك الصفات والخصال تأبى منه ذلك. وبعد ذلك يستأذن ثمامة رسول الله بالعمرة، فيأذن له.

ويطير خبر إسلامه إلى مكة، فما إن وصلها قال له قائل: صبوت؟ ـ أي غيرت دينك؟ ـ فأجاب: لا والله، ولكني أسلمت مع محمد رسول الله.

فانظر كيف أنه لم يعتبر عبادة الأوثان ديناً، ولم يعتبر انتقاله من الشرك إلى الإيمان، انتقالاً من دين إلى دين، فقال: لا والله، إنما الدين هو الإسلام. ثم قال لأهل مكة: لا والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها النبي -صلى الله عليه وسلم-.

 وكانت تجارة قريش وميرتهم من اليمامة، فتأثروا كثيراً وتضرروا بقرار المنع، فكتبوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة: إن عهدنا بك وأنت تأمر بصلة الرحم وتحض عليها، وإن ثُمامة قد قطع عنا ميرتنا وأضر بنا، فإن رأيت أن تكتب إليه أن يخلي بيننا وبين ميرتنا، فافعل.

فكتب إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بذلك. ولم تمض مدة طويلة حتى أسلم أهل اليمامة جميعه استجابة لأمر سيدهم ثُمامة بن أُثال -رضي الله تعالى عنه-.

وبعد، فما أحوجنا نحن اليوم إلى التعامل بثقافة الرفق، وهي من قيم ديننا الحنيف لنجسدها واقعاً ملموساً، وسلوكاً عاماً في حياتنا كله.

فالرفق مطلوب من كل أحد وفي كل مكان، مطلوب الحاكم تجاه الرعية، ومن المدير تجاه الموظفين، ومن الموظف تجاه المراجعين، ومن الطبيب تجاه المرضى..

جاء في الحديث: (اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به) رواه مسلم.

والرفق مطلوب بين أفراد الأسرة: قال -صلى الله عليه وسلم-: (يا عائشة، ارفقي فإن الله إذا أراد بأهل بيت خيراً دلهم على باب الرفق) رواه أحمد.

والرفق مطلوب بالولد عند نصحه، وبالطالب عند تعليمه: قال -صلى الله عليه وسلم-: (علموا ولا تُعنفوا، فإن المعلم خير من المُعنف) رواه الطيالسي.

والرفق مطلوب بالمحتاج عند مساعدته، وبالمستفتي عند جوابه: قال سفيان الثوري -رحمه الله-: (إنما العلم عند الرخصة عن ثقة، أما التشديد فيحسنه كل أحد).

والرفق مطلوب بالعاصي عند تقديم النصيحة له، وبالكافر عند دعوته: يقول -تعالى-: {فبما رحمة من الله لنت لهم، ولو كنت فظاً غليظ القلب لا نفضوا من حولك}.

وأرسل الله -تعالى- موسى وهارون -عليهما السلام- إلى فرعون وهو من قال: أنا ربكم الأعلى، فقال لهما: (اذهبا إلى فرعون إنه طغى، فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى).

والرفق مطلوب من كل أحد وفي كل الأمور، وصدق الحبيب المصطفى القائل: (إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينـزع من شيء إلا شانه) رواه مسلم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply