الرسوم الكاريكاتيرية .. أسباب ومآلات


 

بسم الله الرحمن الرحيم

غلاف الكتاب الذي ألفه المسلم الدانماركي

لم تثر حادثة الإساءة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في الرسوم الكاريكاتيرية التي نشرتها صحيفة دانماركية غضب الجماهير الإسلامية والعربية فقط، ولكنها في المقابل استرعت انتباه النخبة المثقفة أيضا، وتجلى هذا في الحلقة التشاورية النقاشية التي عقدها برنامج "حوار الحضارات" بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة.

 

وعلى مدار خمس ساعات متواصلة جاءت الحلقة التشاورية التي حملت عنوان: "أزمة في مسار الحوار بين الثقافات والأديان: قراءة في تداعيات الأزمة الدانماركية" والتي حضرها العديد من كبار الباحثين والكتاب في مصر وبعض الدول الأوربية ومنها الدانمارك طارحين العديد من الأفكار والرؤى.

 

وكان واضحا من الحلقة أنها لم تطرح مشكلة أو قضية أزمة رسوم الكاريكاتير فقط، بل تعدتها إلى طرح جملة وحزمة كبيرة من المشاكل التي يعاني منها العالمان العربي والإسلامي تارة والعالم الغربي تارة أخرى.

 

عولمة الأزمات

وقد هدفت الحلقة التشاورية إلى تبادل الأفكار والرؤى كمحاولة لفهم الأسباب والمبررات والمآلات على المستوى الإسلامي والغربي، ومحاولة رصد الجديد في هذه الأزمة في ظل تغير طبيعة الأزمات من حيث الموضوع والنطاقº فمشاركة الشعوب فيها بدرجات مختلفة قاد إلى ظهور مفهوم "عولمة الأزمات" في ظل حمل الكثير من الأزمات الحالية الطابع الشعبي الأممي لا الرسمي، فالحاصل هو أن الحكومات تحركت بعد تحرك الشعوب.

 

الأسئلة المطروحة في الحلقة كانت كثيرة، ومنها: ما هو مستقبل حوار الأديان في ظل الأزمة الدانماركية؟ وهل أثبت الحادث أن تلك الحوارات كانت زائفة وبروتوكولية ولم تدخل إلى المناطق التي يمكن من خلالها بناء مساحات مشتركة للتفاهم والاحترام بين الشعوب أم أنها استطاعت بناء جسور للتفاهم؟ وما معنى الخصوصية لكل شعب أو حضارة؟ وما حدود الحرية ومنظور الغرب لها؟ وكيف يجدر بالمسلمين التعامل مع مثل هذه الأزمات بشكل منهجي؟.

 

كما طرحت مسألة الديمقراطية والاستبداد في العالم العربي، وانسداد قنوات الحوار بين المكونات المختلفة فيه، رغم أن الكثير من المثقفين يرنون ببصرهم للحوار مع الخارج وهو ما يعبر عن أزمة داخلية حقيقية.

 

الإطار المنهجي

السيد ياسين

الحديث عن الحاجة إلى وضع إطار نظري لفهم ما يجري على ضوء الحدث الدانماركي كان محور اهتمام المفكر القومي سيد ياسين الذي أكد أن هذا الأمر يتطلب وجود منهج "أريكولوجي" يمكن من تناول مثل هذه القضايا المهمة، ومنها الإجابة على سؤال: "كيف ندرس اللاشعور التاريخي في الثقافة الغربية؟ "، وأشار إلى وجود حالة من اللاشعور التاريخي في الثقافة الغربية منذ الحروب الصليبية والفتح الإسلامي، فجريدة "لوفيجارو" الفرنسية -مثلا- علقت على قطع الملك فيصل البترول عن الغرب إبان حرب أكتوبر 1973 بأنه "الزحف الإسلامي على فرنسا"، مشيرة أن ما فعله فيصل هو "الانتقام من هزيمة المسلمين على يد شارل مارتل في معركة بواتيه". كما ظهر ذلك بوضوح في خطاب الرئيس الأمريكي جورج بوش بعد أحداث 11 سبتمبر وحديثه عن الحروب الصليبية، كل ذلك يؤكد أن القضية ما زالت ماثلة في الشعور الغربي.

 

وانطلق "ياسين" ليؤكد أن اللاشعور التاريخي يلعب دوره في كل ما يحدث، وهذا يؤكده العودة إلى مقولات التنويريين الغربيين عن تنوير البرابرة، ونظرية عبء الرجل الأبيض.

 

المركزية الغربية كانت المحور الثاني في حديثه، فالغرب هو الذي يحدد قيم التقدم والتخلف.. كل شيء يرده لقيمه، فالتاريخ ذاته يثبت أن "نظرية عبء الرجل الأبيض" أعطت مشروعية للاستعمار الغربي منذ قرنين. واللافت اليوم أن إعادة إنتاج المركزية الغربية ما زالت ماثلة في الثقافة الغربية، وعلى سبيل المثال تمرير قانون في الجمعية الوطنية الفرنسية لـ"تمجيد الاستعمار الفرنسي للجزائر".

 

وكانت الخصوصية الثقافية المحور الثالث، حيث طرح سؤال: "ما هو تعريف الخصوصية الغربية؟ "، مؤكدا أنها لا تنفي التفاعل مع الآخر، فالفكر الإسلامي تأثر بالفلسفة اليونانية، والفكر الأوربي تأثر بالثقافة العربية في الأندلس، وكانت أوربا ترسل بالبعثات العلمية إلى الأندلس لتعلم العربية.

 

وحول نفس النقطة تم إثارة سؤال حول شرعية الخصوصية، وهل من حق الثقافات أن يكون لها خصوصية، وأن تختلف مع الثقافات الأخرى؟.

 

القضية الرابعة التي تناولها هي موضوع العنصرية والعنصرية الجديدة، فقد كانت هناك عنصرية في أوربا في القرن التاسع عشر، وهناك عنصرية جديدة حاليا مرتبطة بالعداء للمسلمين، أو الأجانب، وهو ما يسوق القوالب الجامدة عن الآخر، ومنها مقولة إن "الإسلام إرهابي".

 

وطالب ياسين بتحليل أجواء ما بعد الحداثة حتى نفهم ما يجري، وطالب بألا ننسى المجتمعات الإسلامية في الغرب، ودراسة الاتجاهات التي استطاعت بناء منهج خلاق للتكيف بين أصول الإسلام والواقع الغربي.

 

المسيحية ليست الغرب

 

طالب "الأب كريستيان" الباحث الهولندي في القضايا الإسلامية بضرورة التمييز بين المسيحية والغربº لأن المسيحية لا تساوي الغربº لأنهما غير متطابقين داعيا في الوقت ذاته إلى الاهتمام بالحوار مع المسيحيين الشرقيين.

 

وأشار أن هناك حالة من عدم الثقة بين الأطراف الداخلية المتحاورة، وهذا يفرض ضرورة وجود حوار بعيد عن العقائد يعمل على تأسيس معرفة حقيقية لكل طرف عن الآخرº لأن الكارثة تكمن في الانغلاق وتوابعه.

 

الخبير بمركز الأهرام للدراسات الإستراتيجية عماد جاد اتفق مع كريستيان قائلا: من الصعب القول إن منطقة ما تعبر عن دين ما، وهذا يجعل إقامة تحالف أديان لمواجهة بعض الظواهر من بعض القضايا المشتركة أمرا مهما ومُلحا.

 

وكان الكاتب الفرنسي "ألان روسون" في حديثه أكثر وضوحا عندما دعا إلى ألا ننظر للغرب على أنه وحدة واحدةº لأنه يوجد صراع غربي - غربي أيضا يقابل الصراع الغربي الإسلامي، مؤكدا وجود خطط تحاك لصب الزيت على النار في مثل هذه الأزمات، وهو ما يفرض على العقلاء التدخل لوقف القضية وحلها.

 

الغضب الخلاق

آمنة نصير الأستاذة في جامعة الأزهر بدورها دعت إلى حوار حضارات من أجل الإنسان، فالإسلام يؤكد قيمة "يا أيها الناس". كما دعت إلى أن يرد المسلمون على الإساءة التي وجهت للنبي - صلى الله عليه وسلم - على غرار ما فعل اليهود في "الهولوكوست"º لأن إثارة القضية دوليا وتفعيلها قانونيا أمر مهم لوقف مثل هذه الإساءات، وبذلك ندخل في دائرة "الغضب الخلاق".

 

وأشار الشيخ فوزي الزفزاف، مسئول لجنة حوار الأديان في الأزهر، إلى مسألة مهمة وهي أن جهل الغرب بالإسلام، ربما، يقف وراء الأزمة الحالية، وهو ما يفرض مخاطبة الغرب بلغته والقيام بحركة تنوير بالإسلام في المجتمعات الغربية.

 

وتحدث أيضا فاضل سليمان مدير مؤسسة جسور عن Knud Holomboe وهو صحفي دانماركي أسلم وألف كتابا قيما عن رحلة حجه سنة 1926 بعنوان "Desert Encounter" وهو كتاب مغامرات ممتع في كل صفحة من صفحاته رسالة دعوية، وقال: "أسلمت لأنني وجدت السعادة الحقيقية في اتباع عيسى ومحمد".

واقترح سليمان جمع أموال تبرعات لبناء السفارات التي احترقت للدانمارك في بعض البلاد العربية والإسلامية.

فيما اعتبر جمال قطب أحد علماء الأزهر بدوره مسألة حرق بعض السفارات الدانماركية في الخارج ليست عنفا، بل هي عنف مضاد ردا على ما فعلته الصحيفة.

 

مدرسة استشراقية جديدة

المسلم الدانماركي

واقترح سمير مرقص الباحث القبطي ضرورة أن يكون المسلمون في أوربا هم الموجهين لما يفعله المسلمون في عالمنا العربي في هذه القضية بدلا من أن نفرض أجندتنا عليهم.

ولفت الأنظار إلى أن المتطرفين يهمشون دعاة الحوار والاعتدال سواء على الطرف الإسلامي أو المسيحي، ورأى أن الحوار الداخلي هو البداية حتى يمكن إيجاد حوار خارجي قوي، مؤكدا رفضه لتصور البعض أن الحضارة كتلة واحدة متماسكة في مواجهة حضارة أخرى متماسكة.

 

وأشار مرقص أن المدرسة الاستشراقية الجديدة بعد 11 سبتمبر هيمنت على العلاقة بين الحضارات بشكل كبير، وهو ما دفع بعض الاتجاهات الغربية المساندة للقضايا العربية إلى التراجع، وأن هذه المدرسة أعادت تقسيم العالم على أسس ثقافية ودينية.

 

وألمح مرقص أنه كان يوجد مسافة ما بين أوربا والولايات المتحدة، لكن الملاحظ أن هذه المسافة تتضاءل، حيث يوجد شيء في أوربا يتحرك باتجاه أمريكا، ولعل هذا ما يفسر الصمت الأمريكي تجاه أزمة الكاريكاتير، ولعل وصف الرئيس الأمريكي بوش للإسلام بالراديكالي يُعَد المرة الأولى في الأدبيات الأمريكية الرسمية، حيث نسب الراديكالية إلى الإسلام.

 

وأكد أن الصحيفة الدانماركية ليست هي المسيحية، وذلك حتى لا يتم تسميم العلاقات بين الشعوب، خاصة أن هناك خريطة تعاني من الشك داخل المنظومة الغربية تجاه كل ما هو إسلامي.

 

وطرح مرقص فكرة "إعلان مبادئ" لإيجاد تصور فكري متكامل حول طبيعة الحوار وأهدافه ومحاذيره تقوم به هيئات ذات طابع مدني تستطيع أن تضغط على الغرب.

 

معايير الحرية الغربية

 

الحرية كانت محور تعقيب الدكتور إبراهيم البيومي غانم الخبير بمركز البحوث الجنائية بالقاهرة، حيث طرح تساؤلات حول المعايير التي تتحدد على أساسها الحرية في الغرب؟ وما هو إطار الحرية؟.

 

وأشار البيومي إلى أن الفهم العلماني للحرية يقوم على أساس أن "الإنسان هو الذي يحدد ذلك لأنه مرجع ذاته"، وبالتالي فالإنسان هو الذي يحدد الصواب والخطأº وهذا النموذج وصل إلى النهاية ولا يمكن إصلاحه من داخله، وهنا تأتي أهمية حوار الحضارات.

 

كما انتقد عدم تحرك العالم الإسلامي تجاه الانتهاكات التي تعرض لها شخص المسيح - عليه السلام - في أوربا، وطالب بتنمية "ثقافة المطالبة بالحقوق" على المستوى الداخلي لمقاومة الاستبداد، وعلى المستوى الخارجي لمقاومة الإهانة.

 

وفي مداخلة الدكتور نبيل علي - أحد رواد المعلوماتية في العالم العربي- نوه إلى أن حوار الأديان انطلق منذ 30 عاما ولم ينجز شيئا، فالمتحاورون ليس لديهم خبرة بعولمة الدين والثقافة وهذا ما جعله حوار طرشانº فالعرب والمسلمون يذهبون بقضايا سياسية والغرب يقابلهم بقضايا اقتصادية، وهو ما يفرض على الجميع وجود قضايا محددة في الحوار، كما دعا إلى طرح قضايانا الإسلامية في إطار إنساني أوسع وأشمل، فمثلا معاداة السامية جاء طرحها في إطار إنساني.

 

ومن الملاحظ في الندوات والحوارات وغالبية الفعاليات الثقافية، بل في برامج الفضائيات أن طرح مشكلة أو قضية ما لمناقشتها لا يتوقف عند حدود المشكلة، بل يتعداها إلى طرح جملة وحزمة كبيرة من المشاكل التي يعاني ويئن منها العالم العربي والإسلامي، وفي تصوري أن هذا يشكل ظاهرة مقلقة، وفي ذات الوقت كاشفة على وجود أزمة بنيوية في الفكر والواقع تؤدي إلى أن تطرح مشكلاتنا وقضايانا جملة واحدة، ثم ينفض السامر ولا نستطيع أن نقف على علاج ما حتى ولو كان جزئيا لأي من تلك المشكلات، وكأننا نطبق مقولة "ما لا يحل كله، يترك كله بلا حل"، وهكذا فالعديد من الفعاليات التي نحضرها في تلك الفترة نتلمس فيها هذا المأزق الثقافي الفكري والواقعي، وفي نهاية تلك الفعاليات يكون الختام متكررا في عبارات من قبيل:"يجب أن نفعل..يجب أن يكون كذا" دونما أن يلزم طرف أو مؤسسة ما نفسه بأن يقود مبادرة للحل أو العلاج.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply